د.ربيع عبدالعاطى عبيد
Ø لقد تتبعت آثار السياسات التي تنتهجها كثيرٌ من الأنظمة السياسية والحكومات في عالمنا المعاصر بمختلف أنماطها ، فلم أجد بأن ديمقراطية قد فتحت الأبواب ليتجاوز كل أمرئ حده ، ويَقفز فوق المساحة التي خصصت له ، ليتعدى على حقوق الآخرين وحرماتهم .
Ø كما أنى نظرت في ممارسة الحكومات الدكتاتورية والعسكرية القابضة والأنظمة الملكية التى تسير وفقاً لنظام التوريث في الأسرة الواحدة ، فلم أجد بأن هناك من يعبث بسلطته ، أو يسلم مقودها لمن يجنح يمنة ويسرة ، لتختل المسيرة ، ويحيق الظلم ، وتحل الهرجلة في علاقات النّاس ، وتتهاوى القواعد القائمة عليها تقاليدهم وأعرافهم .
Ø إذن ، من يتولى الشأن ، علت قيمته ، أو قلت ، مطالبٌ بإحترام ما أسند إليه ، وملء الثغرة بكاملها ، ذلك لأن من كلف بالحراسة ، لا يسمح للصٍ أن يتسور الحوائط ، أو لحيوان مفترس أن يلج الحظائر ، ليفترس الذى إستجلبه أهل الدار من حيوانات داجنة ، بقصد الإستثمار ، أو الإستهلاك ، أو الرفاهية عن طريق الرؤية والإستمتاع .
Ø والحزم والحسم صنوان عند التعامل مع المسئوليات ، ولا ينبغى لمن كلّف بأمر ذى صلة بحاجيات الناس أن يكون رخواً وغير عابئ بما يحدث لمسئوليته من إفتئات وتعدٍ .
Ø كما لا يجوز له أن ينظر إلى ما حدث دون أن ينبس ببنت شفة ، أو يتخذ إجراءً من شأنه أن يوقف خطى من حدثته نفسه بالإساءة لتلك المسئولية .
Ø ومن المظاهر التى تجلب الرثاء ، وتجعل الحليم حيراناً ، مشاهدتك شرطياً متمنطقاً بالسلاح ، وهو يرى بأم عينيه جريمة تُرتكب ، فلا يتحّرك ضميره ، ولا وازعه الأخلاقى ، دعك من واجبات وظيفته ، وصريح مهمته ، في ملاحقة المجرم ، منعاً لوقوع الجريمة ، أو ضبطاً لفاعلها ، ولا يحدث مثل ذلك المشهد إلا عندما يختفى الحزم ، ويغيب الحسم ، وتضيع هيبة السلطة ، ويصبح القانون الساري نمراً من ورق .
Ø والصحافي الذي لا يتورع عن نشر الأكاذيب ومثير الكلام ، وضار القول ، بلفظ ساقط وتعابير بئيسه ، وقذف الشخصيات العامة والخاصة ، وأفراد الشعب ليحاكمهم الرأي العام إستباقاً ، دون أن تثبت بحقهم تهمة ، أو يصدر بشأنهم حكمٌ قضائى ، لا يفعل ذلك ويجرّد قلمه بهذه الكيفية المفتقرة لوخزات الضمير ، إلا عندما يحس بأنه لا يُساءل ، وبإمكانه أن يطلق لقلمه العنان ، فلا مراعاة لحرمات ، أو كرامة لإنسان ، وهنا تسقط الكوابح القانونية ، ويغيب الضمير ، ويندثر في صحاري النسيان .
Ø وهى كذلك ، ظاهرة تعكس حالة السبات العميق ، لمن وظفوا للذود عن القيم والمثل وحفظ الأعراض وكريم الأخلاق ، فتجردوا من صنعة الحزم والحسم ، وضعفت منظومة القيم الإجتماعية ، وصار المجتمع بلا مصدات أخلاقية تدافع عنه ، وتحمي عرضه وأخلاقه ، والنتيجة أن توحّش المجتمع وتنمر ، ولا ينال حقه إلا من له أظافر حادة وأنياب.
Ø فمثلاً نجد أن الوزارة التي أعطاها القانون حقاً لإصدار قرارٍ بموجبه يُمنح الفرد تسهيلاً إستثمارياً ، أو إعفاءً ضريبياً ، ويُسند التنفيذ لمن أوكلوا به ، ثم لا يتابع مثل هذا القرار ، وفي ظل غياب المراقبة ، وسياسة الحزم والحسم ، يصير مثل هذا القرار حبراً على ورق ولا يبدو هناك إستعداد لتنفيذه ، لإحساس منفذيه بأنهم غير محاسبين ، وليسوا متابعين ، وبإمكانهم فرض شروط زائدة لا إختصاص لهم بها .
Ø وهى حالة تعكس تحكم المزاج والسادية ، في التعامل الذي ينتج حالات التعقيد والعراقيل التي تسود الآن ، وهو أمرٌ لا يمكن رده إلا لغياب الحزم والحسم من الجهة المسئولة ، التي منحت الصلاحيات بموجب القانون لإصدار القرار ، والذي قصد منه التيسير فصار إلى التعسير ، بعد أن أُودع الأضابير ، وذهب الذي يفترض أن يستفيد منه عاضاً لأنامله ، وحاصداً للريح .
Ø وأيضاً كمثال لغياب الحزم والحسم ، الكثير من قرارات مجلس الوزراء التي تصدر بين حين وآخر ، بصدد قضايا متنوعة ، وضروريات حالة ، وظروف إستثنائية ، فكثيرها بقي على أرفف الإرشيف ، فلا يُبصّر بها المواطن ، ولا يُلقى عليها الضوء الإعلامي ، وتظل كما لو أنها لم تصدر ، إلى أن تُلغى بقرار آخر ، وكأنها قرارات ليست في ، العير ولا في النفير .
Ø ووأسفاه على حزمٍ وحسمٍ صارا من المستحيلات ، عندما تكون المسئولية قد أصبحت في يد مجهول ، أو شخص غير مسئول ، وعندما تنعدم المراقبة ، وتنحسر المتابعة تتبخر القرارات نفسها وتؤول إلى عالم مجهول .
Ø لهذا فإن الحزم والحسم ، هما الركيزتان الأساسيتان لإستقرار القواعد القانونية والنظم السلسة ، وحفظ الحقوق ، وجلب الثقة والطمانينة للأفراد والجماعات .
Ø كما أنّ ذات العنصرين ، هما اللذان يحققان الحكم الرشيد ، هذا إن آمنا بأن الأنظمة الديمقراطية ، أو الدكتاتورية ، أو غيرهما ، تعتصم جميعاً بهما ، ذلك لأن من يعتلي عرش سلطة ، أو يتولى مسئولية ، إن تجرد من ذلك ، فإن الذي يمسك هو بتلابيبه سيكون فى لحظة من ليلٍ ، أو نهار منفلتاً من يديه ،لا يستطيع له إمساكا ، ولا ينفع بعد ذلك تصفيق الأيادي ، أو عض البنان .
Ø وإذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة ، وتلاشئ السلطات ، وسقوط الإمبراطوريات .